بقلم قداسة البابا تواضروس الثاني

صديقتي : قصة قصيرة 

بقلم قداسة البابا تواضروس الثاني
بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية

قداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسيةمقال البابا تواضروس الثانى فى الأهرام

في الأهرام بتاريخ الجمعة ٣ يوليو ٢٠٢٠م 

   أسكن بالطابق الثالث في بنايه ذات أربع طوابق وكنت أحب غُرفتي بل وأعشقها رغم أثاثها البسيط جداً .. سرير ودولاب وكرسي وسجاده الأرض وإضاءة كافيه بالسقف ، كنت أحب الجلوس فيها ولوقت طويل ودون ملل أو ضجر.

   ورغم أن لي مسكناً آخر في مدينة أخري ... إلاًّ أن هذه الغرفة كانت تجذبني دائماً في حياتي التي أعيشها بمفردي داخلها .كنت أتسأل دوماً : لماذا أحب غرفتي هذا الحب الكبير ؟ وعندما بحثت عن السبب... وجدت ضالتي  !

في غرفتي نافذة مستطيلة ذات ضلفه زجاجية واحدة ومن خلالها يبدو المنظر رائعاً.

   منها أري إمتداد السماء الصافية في خلفية المشهد الجميل والشمس تنيرها بضياء خلاب كل صباح وهناك شجرة كافور ضخمة وعالية حتى أن فروعها تصل إلى الطابق الرابع ... ولكن هنا من النافذة أري جزءاً يتمايل ويتراقص من هذه الفروع مع حركة الهواء ... إنه فرع ممتد من الشجرة ومنه تخرج فروع أصغر وتتدلى منها الأوراق الخضراء المستطيلة والتي مع حركة الهواء تصدر أصواتاً عديدة و كأنها تتنفس الهواء عندما يمر بينها ...

   ويكتمل المشهد بالعصافير المنطلقة والسابحة في الهواء .. تقف حيناً على فروع الشجرة وحيناً آخر تتحرك وتمشى وتصدر أصواتها العذبة في تناغم بديع جداً ، وكأنى أستمع إلى لحن موسيقى رقيق ... ولا يوجد غير أصواتها التي أشعر أنها تتكلم مع بعضها ربما بلغه تفوق معرفتنا ...

   والجميل أنه لا توجد أي أصوات بشرية .. السماء صافية والهواء نقياً والشمس ساطعة والعصافير تعزف ألحانها وهى بفرح غامر وسلام تتحرك وتطير ولا تحمل هماً أو قلقاً لأى شيء.

   في كل صباح أجلس ساكناً أمام هذه النافذة والتي أشعر أن الله يتطلع إلىَّ من خلالها وكُنت دائماً أتسأل عن سر هذا الجمال المدهش الذى أراه من خلال النافذة المحدود في مساحتها .

   في كل صباح أرى أفكاري وحياتي من خلال هذه النافذة المحيرة، كنت أري حباً من خلالها يتدفق من السماء والشمس والشجرة والعصافير والأصوات والهواء والنور ... إنها لوحه بديعة.

   لقد وجدت هذه النافذة وكأنها تحدثني عن حياتي وأيام عمرى وأنا الأن في نهاية العقد السابع من العمر وعرفت نافذتي منذ العقد الخامس ولم أكن ملتفتاً إليها إلاَّ الآن .

   حركة فروع الشجرة أمامي حركة دائمة تمثل حركة أيام عمرى ومراحل الحياة ... أحياناً تتحرك بحركات خفيفة وفى أحيان أخرى تكون شديدة وهكذا مرت حياتي ..

   مراحل وأيام هادئة ساكنة في كثير من الأحيان، ولكن كانت هناك مواقف شديدة وربما مؤلمة وربما قاسية ... هل هي صدمات القدر عندما نفقد أحباء لنا أو نعانى ألماً وتعباً من آخرين ؟، أو نجتاز أمراض والآم جسدية مبرحة وتحتاج جراحات خطيرة لعلاجها ؟

وكأن النافذة تحكى وتصور مرور السنوات بحلوها ومرها ...

    لأن من الفروع تتدلى الأوراق المميزة لشجرة الكافور ذات الرائحة العطرية المعروفة ... وأتخيل أن هذه الأوراق تمثل البشر الذين عرفتهم في مشوار الحياة الطويل ... سواء أقرباء أو أحباء أو حتى عابرين في حياتي ... لا معنى للحياة بدون البشر ولا معنى للحياة بدون الحب الذى يجعل هذه الأوراق مترابطة على فرع الشجرة في إنسجام عجيب  .

   الحب ذلك الإحساس الجميل الذى يشعر به الإنسان من خلال الآخرين، لقد أحببت معظم الذين عرفتهم ... أسرتي، أصدقائي، زملائي، معارفي، زُواري ... وإن تفاوتت مشاعر الحب من إنسان لآخر، أنني أشعر بالحب جداً في علاقاتي الإنسانية ... 

   أشعر أنني أحمل قلباً كبيراً جداً ويكاد أنني أصرخ في قلبي تجاه كل أحد " أنا بحبك " أقولها عن إحساس وشعور عميق في داخلي، لا أذكر يوماً أنني خاصمت إنساناً أو سمحت للكراهية أن تطرق باب قلبي ؟

   وعندما وضعتني العناية الإلهية في بداية العقد السابع من عمرى أن أكون مسؤولاً كبيراً، شعرت أن طاقة الحب تتدفق بالحقيقة مثل تدفق ينبوع المياه العذبة نحو الكل وبدون إستثناء حتى مع الذين أخذوا موقفاً منى أو عادوني أو أصدروا نقداً وحكماً على قراراتي .

   إن أصعب المواقف كانت القساوة التي أجدها عند بعضهم  ..وكأن قلبهم بلا رحمه بلا إحساس بلا حب ...وأتعجب كيف يوجد أُناس بلا حب في حقل عمل مؤهله الأول الحب .

   إن الأوراق المتدلية من فروع الشجر تروح وتجيء مع حركة الريح ويأتي وقت الخريف ويتساقط بعضها جافاً بصفره الموت ولكن الحياة تستمر .. لقد فقدت أعزاء وتألمت لغيابهم ولكن مازال حبهم في قلبي  .

   أما العصافير التي تأتى أحياناً وتقف على فروع الشجرة وأراها منطلقة فرحه وتتحرك في انسيابيه مذهله يعجز عنها أهل الأرض، وأظن أن كل مرة يأتي عصفوراً أمام النافذة إنه يحمل رسالة خاصة من الله لي  ...في حركته الرشيقة أشعر بيد الله الحانية، وفى صوته الرقيق أشعر بصوت الله الحنون، وفى مجيئه وذهابه أشعر بدفقات الحياة المتجددة  .

   كثيراً ما عمل الله معي بشكل مذهل ... 

   في طفولتي لم أكن أدرى تماماً ما يحدث معي من نجاحات وإخفاقات ... أتذكر الآم مرض والدى ومعاناه والدتي، ومسيرة دراستي وطبيعة عملي وهدف حياتي، وعندما أنظر إلى الماضي أتعجب أندهش كيف مرت حياتي هكذا محاطاً بيد الله القوية وكأن ذلك العصفور الذى يتحرك بلا خوف ولا هم بل في حرية و إنطلاق وفرح .كانت زقزقه العصافير بمثابة أصوات تسبيح وصلاة وبهجه و اطمئنان ... وهو شعور متبادل بينهم وبينى.

   إنها بالحقيقة لوحة جماليه مدهشة وسط الهدوء والسكون وتطلعات الحياة من خلال هذه النافذة التي تجعلني أسَبح في الماضي وأعِيش الحاضر وأتطلع إلى المستقبل في سلام  واطمئنان.

   أشعر أحياناً إن هذه النافذة مصدر سعادتي وبهجه قلبي بل أنني أكاد أسميها " نافذة رجاء " لأنه كما تعصف بي الحياة في مواقف صعبة وأحياناً مؤلمه، أعود إلى  "صديقتي " لأنال قسطاً من الرجاء عالماً أن كل الأشياء تعمل معاً للخير ... إن تفاصيل هذه النافذة وما أراه من خلالها لهو يعنى لي أن الحياة حلوه وأنها بخير، رغم الشرور التي نجدها أو نسمع عنها ... وأشعر أن مشاعري تجاه صديقتي هي مشاعر راحه وسلام ... هذه النافذة ترسم لوحه حياتي الجميلة .

3 comments: